الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي واحد ووحيد؛ وتوضع (أَفْعَل) موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] بمعنى هين.قوله تعالى: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي ليس يتصدق ليجازِيَ على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي {وَلَسَوْفَ يرضى} أي بالجزاء.فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عَذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول أحد أحد؛ فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد يعني الله تعالى ينجيك» ثم قال لأبي بكر: «يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله» فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه.فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليدٍ كانت له عنده. فنزلت {وَمَا لأحد عِندَهُ} أي عند أبي بكر {مِن نِّعْمَةٍ}، أي من يدٍ ومِنَّة، {تجزى} بل {ابتغاء} بما فعل {وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى}.وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبيّ بن خلف بِلالاً، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4].وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أَتَبِيعُنِيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنِسطاس، وكان نِسْطاس عبداً لأبي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ، وكان مشركاً، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له مالُه، فأبى، فباعه أبو بكر به.فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده؛ فنزلت: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء} أي لكن ابتغاء؛ فهو استثناء منقطع؛ فلذلك نصبت.كقولك: ما في الدار أحد إلا حماراً.ويجوز الرفع.وقرأ يحيى بن وثاب {إلا ابتغاءُ وجهِ ربه} بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى.وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم: وقول القائل: وفي التنزيل: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] وقد تقدم.{وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} أي مَرْضاته وما يقرّب منه.و{الأعلى} من نعت الرب الذي استحق صفات العلو.ويجوز أن يكون {ابتغاء وجهِ ربه} مفعولاً له على المعنى؛ لأن معنى الكلام: لا يؤتِي ماله إلا ابتغاء وجهِ ربه، لا لمكافأة نعمته.{وَلَسَوْفَ يرضى} أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضى؛ وذلك أن يعطيه أضعاف ما أنفق.وروى أبو حَيّان التيميّ عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِم الله أبا بكر! زوجنِي ابنته، وحملني إلى دار الهِجرة، وأعتق بلالاً من ماله»ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه.وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (يعني بلالاً رضي الله عنه).وقال عطاء وروي عن ابن عباس: إن السورة نزلت في أبي الدَّحداح؛ في النخلة التي اشتراها بحائط له؛ فيما ذكر الثعلبيّ عن عطاء.وقال القشيريّ عن ابن عباس: بأربعين نخلة؛ ولم يسم الرجل.قال عطاء: «كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحِها في دار جارٍ له، فيتناوله صبيانه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تبيعها بنخلة في الجنة؟ فأبى؛ فخرج فلقِيه أبو الدَّحداح فقال: هل لك أن تبِيعنِيها بـ: (حُسْنَى): حائط له.فقال: هي لك.فأتى أبو الدَّحداح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة.قال: نعم، والذي نفسي بيده. فقال: هي لك يا رسول الله؛ فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم جار الأنصاريّ، فقال: خذها. فنزلت {والليل إِذَا يغشى} إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} يعني أبا الدحداح».{وَصَدَّقَ بالحسنى} أي بالثواب.{فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى}: يعني الجنة.{وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} يعني الأنصاريّ.{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي بالثواب.{فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 10]، يعني جهنم.{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي مات.إلى قوله: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} يعني بذلك الخزرجِيّ؛ وكان منافقاً، فمات على نفاقه.{وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يعني أبا الدحداح.{الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} في ثمن تلك النخلة.{وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يكافئه عليها؛ يعني أبا الدحداح.{وَلَسَوْفَ يرضى} إذا أدخله الله الجنة.والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم.وقد ذكرنا خبراً آخر لأبي الدحداح في سورة (البقرة)، عند قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245].والله تعالى أعلم. اهـ.
فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره مع أنه خلاف المذهب الحق وأيضاً أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغير المكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجنبونها وقيل غير ذلك ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع نستحسن ان قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل.وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضمير هاهنا المفعول الثاني و{الأتقى} المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل ويقال جنب فلان خيراً وجنب شراً وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصلب جنبته كما قيل جعلته على جانب منه وكثيراً ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى.{الذى يُؤْتِى مَالَهُ} أي يعطيه ويصرفه {يتزكى} طالباً أن يكون عند الله تعالى زاكياً نامياً لا يريد به رياء ولا سمعة أو متطهراً من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير {يؤتي} وجوز أن تكون بدلاً من الصلة فلا محل لها من الإعراب وجوز أيضاً أن يكون الفعل وحده بدلاً من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها نابع فيه وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معرباً بإعراب سابقه لظهور ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبه على بعضه الرضى أما عن الأول فبان المراد أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب بإعراب سابقه وجوداً وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث انه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبان الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققاً قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتي بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى المراد بقولهم كل ثان أعرب إلخ كل ثان أعرب لو لم يكن معرباً فتدبر ولا تغفل وجوز أن يكون {يتزكى} بتقدير لأن يتزكى متعلقاً بـ: {يؤتي} علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوباً كما في قول طرفة: فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت وأيَّاً ما كان يدل الكلام على أن المراد بأيتائه صرفه في وجوه البر والخير.وقرأ الحسن بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يزكي بإدغام التاء في الزاي.{وَمَا لِأحد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى (19)}استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للزكى خالصاً لله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من شأنها أن تجزي وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتي مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تجزي للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجزيه إياها أو يجزيها إياه.{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20)}منصوب على الاستثناء المنقطع من {نعمة} لأن الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة.وقرأ يحيى بن وثاب {ابتغاء} بالرفع على البدل من محل من نعمة فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله: وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم: وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه عز وجل لا لمكافاة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب وإنما أولا لأن الكلام أعني {يؤتي ماله} [الليل: 18] موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى: {وما لأحد} [الليل: 19] وقد قال سبحانه أولاً {يتزكى} متضمناً نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور.وقرأ بن أبي عبلة {إلا ابتغا} مقصور وفيه احتمال النصب.والرفع وهذه الآيات على ما سمعت نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقاباً ضعافاً فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد.وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى.وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس أنه رضي الله تعالى عنه اشترى بلالاً وكان رقيقاً لامية بن خلف يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الأليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عيسى وأمة بني المؤمنل وفيه نزلت {وسيجنبها الأتقى} [الليل: 17] إلى آخر السورة.واستدل بذلك الأمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في على كرم الله تعالى وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} جواب قسم مضمر أي وبالله {لَسَوْفَ يرضى} والضمير فيه لـ: {الأتقى} لمحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الأمام كون الضمير للرب تعالة حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أن ما أنفق إلا لطلب رضوان الله تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز وجل وبالجملة فلابد من حصول الأمرين كما قال سبحانه: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] انتهى.والظاهر هو الأول.وقد قرئ {وَلَسَوْفَ يرضى} بالبناء للمفعول من الإرضاء.وما أشار إليه في معنى {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} غير متعين كما سمعت.وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. اهـ.
|